السؤال: اكتب نبذة عن التطور التاريخي لقياس البعد بين الشمس والأرض
- الإجابة: مرّ تقدير المسافة الفاصلة بين كوكبنا والشمس بمراحل تاريخية متلاحقة، بدأت بمحاولات هندسية في العصور القديمة، ثم تطورت بشكل جذري مع فهم حركة الكواكب، وبلغت ذروتها في القرن الثامن عشر عبر رصد عبور كوكب الزهرة، وهي طريقة تزامنت مع قياسات أخرى مثل التي أجراها جيمس برادلي حوالي عام 1732، لتصل في عصرنا إلى دقة متناهية باستخدام التقنيات الرادارية الحديثة.
شرح الإجابة:
لم تكن رحلة معرفة المسافة الشاسعة التي تفصلنا عن الشمس سهلة على الإطلاق، بل هي قصة ملحمية من الإصرار الفكري بدأت فصولها الأولى مع الإغريق القدماء. لقد حاول فلكيون مثل أرسطرخس الساموسي استخدام حساب المثلثات وزوايا القمر والشمس لتقدير هذا البُعد الهائل. ورغم أن نتائجه كانت بعيدة جداً عن الواقع بسبب بدائية أدوات الرصد آنذاك، إلا أن منهجيته الهندسية في التفكير كانت عبقرية ووضعت اللبنة الأولى في صرح هذا العلم.
وإذ بنا ننتقل إلى منعطف حاسم في تاريخ الفلك، حيث أدت نماذج مركزية الشمس التي وضعها كوبرنيكوس، ثم قوانين حركة الكواكب التي صاغها يوهانس كيبلر، إلى فهم أعمق لبنية النظام الشمسي. لقد مكنتنا قوانين كيبلر من معرفة المسافات النسبية بين الكواكب والشمس بدقة مذهلة، لكنها ظلت كخريطة لا تمتلك مقياس رسم. كان ينقصنا فقط قياس حقيقي واحد، وهو المسافة بين الأرض والشمس، والذي عُرف لاحقاً بـ “الوحدة الفلكية”، وبمجرد تحديده، ستتكشف أبعاد المجموعة الشمسية بأكملها.
وهنا، بزغت فكرة ثورية اعتمدت على ظاهرة فلكية نادرة تُعرف بـ “عبور كوكب الزهرة”، حيث يمر الكوكب كنقطة سوداء صغيرة أمام قرص الشمس. ففي أواخر القرن السابع عشر، أدرك العلماء أنه من خلال رصد توقيت بداية ونهاية هذا العبور من نقاط مختلفة ومتباعدة على سطح الأرض، يمكنهم باستخدام مبدأ اختلاف المنظر (Parallax) حساب المسافة إلى الزهرة، ومنها إلى الشمس. وقد تحول هذا الإدراك إلى مشاريع علمية دولية ضخمة في القرن الثامن عشر، حيث سافر الفلكيون إلى أقاصي الأرض فقط لتسجيل هذه اللحظات الثمينة، مما أدى إلى الحصول على أول تقدير دقيق بشكل لافت للمسافة المنشودة.
وبالتوازي مع جهود رصد عبور الزهرة، ظهرت طرق مبتكرة أخرى. ففي عام 1732 تقريباً، استطاع العالم جيمس برادلي تقديم قياس تقريبي آخر لكن بأسلوب مختلف تماماً، معتمداً على ظاهرة “الزيغ النجمي”. ببساطة، لاحظ برادلي أن مواقع النجوم الظاهرية تتغير قليلاً على مدار العام بسبب حركة الأرض في مدارها، تماماً كما يبدو لك المطر مائلاً عندما تركض تحته. ومن خلال قياس هذه الزاوية الضئيلة، تمكن من حساب سرعة دوران الأرض، ومن ثم استنتاج نصف قطر مدارها، أي المسافة إلى الشمس.
أما اليوم، فقد طوت البشرية تلك الصفحات المليئة بالتحديات لتدخل عصراً من الدقة المطلقة. فبفضل تقنيات الرادار، أصبح بإمكاننا إرسال إشارات راديوية لترتد عن سطح كوكب الزهرة أو عطارد، ومن خلال قياس الزمن الذي تستغرقه الإشارة ذهاباً وإياباً، وبمعرفتنا لسرعة الضوء الثابتة، نحسب المسافة بدقة لا يمكن مقارنتها بأي طريقة سابقة. لقد حوّلت هذه التقنيات ما كان يوماً لغزاً كونياً عظيماً إلى حقيقة علمية راسخة ومُقاسة بأجزاء من المتر.