أقسام المقالة
مقدمة: عظمة المنّة وحيرة المُحصي
تُعدّ قضية نعم الله على عباده من القضايا الإيمانية والفلسفية الكبرى التي شغلت فكر الإنسان على مر العصور. فكل ما يحيط بنا، من أصغر ذرة إلى أوسع مجرة، هو مظهر من مظاهر الجود والعطاء الإلهي.
لكن العبارة المثارة للنقاش اليوم تطرح تحديًا مباشرًا لمنطق الإنسان وقدرته الإحصائية: “نعم الله على عباده لا يمكن أن تعد، أو تحصى.” هل هذه العبارة صواب أم خطأ؟
للوصول إلى حكم دقيق، يجب علينا تجاوز التفسير الحرفي لكلمتي “عدّ” و “إحصاء” والنظر في الأبعاد الدينية والمنطقية والوجودية التي تحملها العبارة، مُستنيرين بنصوص الوحي ومقتضيات العقل.
التحليل والحكم: هل نعم الله على عباده لا يمكن أن تعد، أو تحصى
- إن العبارة القائلة: “نعم الله على عباده لا يمكن أن تعد، أو تحصى. صواب خطأ” هي عبارة صواب إيمانا ومنطقا.
وهذا الحكم لا يقوم على التخمين، بل على أدلة قطعية ومسلمات عقلية ووجودية يمكن تفصيلها فيما يلي:
أولاً: الدليل القرآني القطعي والمنطقي (الاستدلال والنصوص الدينية)
جوهر الحكم يعود إلى النص المقدس الذي لا يقبل الجدل في هذا السياق:
- النص المباشر: الآية الكريمة في سورة النحل، التي تُعتبر المرجعية الأولى لهذه القضية، تقول: ﴿إِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النحل: 18).
- دلالة الآية: النص صريح في نفي إمكانية الإحصاء. فـ “إن” هنا شرطية تفيد التعجيز، أي حتى لو بذلتم الجهد في العد، فلن تصلوا إلى الإحصاء الشامل.
- الفرق بين “العد” و “الإحصاء”: المفسرون يوضحون أن العد هو حصر الجزئيات (كأن تعد أصابع يدك)، بينما الإحصاء هو الإحاطة الكلية والوقوف على العدد الإجمالي (كأن تحصي جميع نعم الدنيا). الآية تُثبت إمكانية محاولة العد الجزئي، لكنها تنفي تمامًا القدرة على الإحصاء الكلي.
- ارتباطها بصفات الله: عدم القدرة على الإحصاء يؤكد صفات الله الحسنى، خاصةً صفات الوهّاب (الذي يعطي بلا عوض) و الرزّاق (الذي تكفّل بأرزاق الخلق) و المنّان (كثير العطاء). نعم الله تنبع من ذاته وصفاته اللامتناهية، وبالتالي، فإن نتائج هذا العطاء تكون بالضرورة لامتناهية أو على الأقل تفوق حدود الإدراك البشري.
ثانياً: شمولية أنواع النعم (أنواع وأمثلة النعم)
إن ما يمنع العد والإحصاء ليس فقط كثرة النعم، بل تنوعها وشموليتها ودخولها في أدق تفاصيل الوجود:
- النعم الوجودية (نعم الإيجاد): هذه هي النعمة الأصل، وهي نعمة الخلق والوجود ذاتها. فمجرد “كونك كائنًا حيًا”، هي نعمة لا يمكن قياسها، وتشمل أدق آليات العمل البيولوجي في الجسم (كنبض القلب، وظيفة الكلية، تفكير الدماغ)، والتي لا يمكن إحصاء تفاعلاتها الكيميائية والفيزيائية الدقيقة في لحظة واحدة، فكيف بحياة كاملة؟
- النعم المعنوية والباطنة: الخيرات لا تقتصر على الماديات (المال، الطعام، السكن)، إنما تمتد لتشمل التي لا تُرى بالعين، وهي الأثمن والأصعب في الإدراك، مثل:
- نعمة الإيمان والهداية: وهي أعظم النعم على الإطلاق.
- نعمة الأمن والسكينة: وهي أساس الاستقرار النفسي والمجتمعي.
- نعمة دفع النقم: وهي النعم السلبية (بمعنى عدم وقوع الشر)؛ فكل بلاء صرفه الله عن العبد هو نعمة لا يعرف العبد قدرها.
- النعم اللحظية: الخيرات متجددة لا تتوقف. كل ثانية يمر فيها الهواء إلى الرئتين، كل نبضة قلب، كل فكرة صالحة، هي نعمة جديدة، مما يجعل عملية الإحصاء عملية مستحيلة رياضيًا وزمنيًا.
ثالثاً: الحكمة الإلهية من التعجيز (التحليل العقلي والمنطقي)
هذا التعجيز عن الإحصاء ليس قصورًا في قدرة العبد فحسب، بل هو حكمة إلهية عميقة:
- تحقيق العبودية المطلقة: عندما يدرك الإنسان أنه لا يستطيع الإحاطة بكل النعم، ينتقل من حالة “شكر المنعم على نعم معينة” إلى حالة “شكر المنعم على ذاته”. هذا الإدراك يؤدي إلى الشعور بالفقر المطلق إلى الله والرضا الكلي بما أعطى وما منع، وهو جوهر العبودية.
- الإبقاء على دافع الشكر: لو كان بمقدور الإنسان أن يحصي العطايا، لأمكنه أن يظن أنه أدى حقها بالكامل، فتتوقف مسيرة الشكر. لكن استحالة الإحصاء تُبقي العبد دائمًا في حالة تقصير واعتراف، مما يضمن استمرار الشكر والذكر والتفكر.
- إثبات عظمة الخالق: إن عدم قدرة المخلوق المحدود بالزمان والمكان على حصر عطاء الخالق اللامحدود، هو الدليل الأبلغ على عظمة هذا الخالق وكرمه الذي لا ينفد.
واجب العبد والجانب التطبيقي
بما أن العبارة “صواب”، فإن واجب العبد تجاه هذه الحقيقة يتلخص في:
- الاعتراف بالعجز: بداية الشكر هي الاعتراف الصادق أمام الله بالعجز الكلي عن إحصاء النعم وعن أداء حقها.
- الشكر العملي والقلبي: لا يُطلب من العبد إحصاء النعم، إنما يُطلب منه استعمال هذه العطايا في طاعة المنعم. فالشكر بالعمل هو أن تستخدم نعمة الصحة في السعي، والمال في الإنفاق في الخير، والفكر في التأمل والتدبر.
- التأمل المستمر: على الإنسان أن يتدرب على التوقف اليومي للتفكر في الخيرات التي يراها “مسلّمات” (كقدرته على المشي أو نعمة الأمن)، فهذا التأمل هو أفضل علاج للجحود وتحسين الصحة النفسية والرضا العام عن الحياة.
الخلاصة
إن مقولة “نعم الله على عباده لا يمكن أن تعد، أو تحصى” هي صواب إيماني وعقلي مستمد من كتاب الله. وهي ليست دعوة لليأس من الشكر، بل هي دعوة لإدراك عظمة الله والعيش في حالة شكر مستدام، اعترافًا بفضل المنعم الذي لا يحده عد ولا إحصاء.