السؤال: من القائل في رثاء الزهراء عليها السلام: نفسي على زفراتها محبوسة يا ليتها خرجت مع الزفرات، لا خير بعدك في الحياة وإنما أبكي مخافة أن تطول حياتي؟
شرح الإجابة:
إن هذه الكلمات، التي تنبض بالأسى العميق والفقد المرير، قد نطق بها الإمام علي بن أبي طالب، وهو يقف على قبر زوجته السيدة فاطمة الزهراء، ابنة نبي الإسلام محمد عليهما الصلاة والسلام. لم تكن هذه الأبيات مجرد قصيدة رثاء عادية، بل كانت بمثابة انفجار بركاني لمشاعر الحزن التي اعتصرت قلبه، وشهادة خالدة على حجم الفاجعة التي ألمّت به بعد رحيل شريكة حياته ورفيقة دربه. يتجلى في هذا الموقف لحظة إنسانية نادرة، حيث يخلع رجل بمكانة الإمام علي وقوته كل أردية الصبر ليعبر عن ألمه بلغة تكاد تكون مرئية وملموسة.
ولدى تأملنا في عمق هذه العبارات، نجدها تصور حالة نفسية بالغة التعقيد. فقوله “نفسي على زفراتها محبوسة” يرسم صورة لروح تختنق بأحزانها، حيث أصبحت الأنفاس ذاتها سجناً للآهات. ثم ينتقل إلى ذروة اليأس في قوله “يا ليتها خرجت مع الزفرات”، وهي أمنية بالموت لا تصدر إلا عن نفس ذاقت من مرارة الفقد ما يفوق قدرتها على التحمل. وهنا تكمن البراعة اللغوية والعاطفية، إذ لا يكتفي بالتعبير عن الحزن، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى في استمرار حياته عبئاً وعقاباً، وهو ما يوضحه الشطر الأخير “وإنما أبكي مخافة أن تطول حياتي”، فالبكاء هنا ليس على الراحلة، بل هو خوف من وحشة الأيام القادمة التي ستخلو منها.
علاوة على ذلك، فإن هذه الكلمات تكتسب ثقلاً إضافياً حين ندرك أنها صدرت عن الإمام علي، المعروف بفصاحته وبلاغته التي لا تضاهى، حتى لُقّب بأمير البيان. فهذه الأبيات ليست مجرد شعر منظوم، بل هي تدفق تلقائي لأحاسيس صادقة، خرجت من وجدانه الملتاع لتصبح من أبلغ ما قيل في أدب الرثاء العربي. إنها تعكس قدرته الفذة على تحويل الألم الإنساني الخالص إلى لغة خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتلامس كل من اختبر لوعة الفراق.
ومن هذا المنطلق، فإن هذه الأبيات تتجاوز كونها مجرد إجابة عن سؤال تاريخي، لتصبح وثيقة إنسانية فريدة. هي تجسيد لمعاني الوفاء والحب العميق، وفي الوقت ذاته، مرآة تعكس فداحة الخسارة في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في التاريخ الإسلامي. لقد حفرت هذه الكلمات مكانتها في الذاكرة الجمعية ليس فقط لجمالها البلاغي، بل لأنها صوت مباشر من قلب أحد أعظم الشخصيات في التاريخ، وهو يواجه أكثر التجارب الإنسانية قسوة: فقدان من يحب.